الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)
.باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين: قوله: (سبب كفر بني آدم)، السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع} [الحج: 15]، أي: بشيء يوصله إلى السماء.ومنه أيضًا سمي الحبل سببًا، لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر.وأما في الاصطلاح عند أهل الأصول، فهو الذي يلزم من جوده الوجود ومن عدمه العدم.أي: إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم عُدِمَ المسبب، إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب.قوله: (بني آدم)، يشمل الرجال والنساء، لأنه إذا قيل: بنو فلان، وهم قبيلة، شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنو فلان، أي رجل معين، فالمراد بهم الذكور.قوله: (وتركهم)، يعني: وسبب تركهم.قوله: (دينهم)، مفعول ترك، لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و: (دينهم) يكون مفعولًا به.قوله: (هو الغلو)، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو: خبر لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب.والغلو: هو مجاوزة الحد في الثناء مدحًا أو قدحًا.والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شرًّا.والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحًا.قوله: (الصالحين)، الصالح: هو الذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله: (أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين)، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحًا، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع.وقد قال الرسول: «لولا أنا: لكان في الدرك الأسفل من النار»، يعني: عمه أبا طالب.وقول الله عز وجل: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} [النساء: 171].قوله: (وقول الله- عز وجل-)، يعني: وباب قول الله- عز وجل-.قوله: {يا أهل الكتاب}، نداء، وهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة لليهود والإنجيل للنصارى.قوله: {لا تغلو في دينكم}، أي: لا تتجاوزوا الحد مدحًا أو قدحًا، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عمومًا، فإنهم غلوا في عيسى بن مريم عليه السلام مدحًا وقدحًا، حيث قال النصارى: إنه ابن الله، وجعلوه ثالث ثلاثة.واليهود غلوا فيه قدحًا، وقالوا: إنه أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله؟ فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط وتفريط.قوله: {ولا تقولوا على الله إلا الحق}، وهو ما قاله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه: إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا.قوله: {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله}، هذه صيغة حصر، وطريقه: {إنما}، فيكون المعنى: ما المسيح عيسى بن مريم إلا رسول الله، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله.وفي قوله: {رسول الله} إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله.وفي قوله: {وكلمته} إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا.{وكلمته ألقاها إلى مريم}: أن قال له كن فكان.قوله: {وروح منه}، أي: إنه عز وجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بين آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إلى تشريفًا وتكريمًا، كما في قوله تعالى في آدم: {ونفخت فيه من روحي} [ص: 72]، فهذا للتشريف والتكريم.قوله: {فآمنوا بالله ورسله}، الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله محمد الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم.قوله: {ولا تقولوا ثلاثة}، أي: إن الله ثالث ثلاثة.قوله: {انتهوا خيرًا لكم}، {خيرًا}: خبر ليكن المحذوفة، أي: انتهوا يكن خيرًا لكم.قوله: {إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض}، أي: تنزيهًا له أن يكون له ولد، لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فهو من جملة المملوكين المربوبين، فكيف يكون إلهًا مع الله أو ولدًا لله؟* (تنبيه):لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة.قوله: {وكفى بالله وكيلًا}، أي: كفى الله تعالى أن يكون حفيظًا على عباده، مدبرًا لأحوالهم، عالمًا بأعمالهم.والشاهد من هذه الآية قوله: {لا تغلو في دينكم}، فنهى عن الغلو في الدين، لأنه يتضمن مفاسد كثيرة، منها:1- أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحًا، وتحتها إن كان قدحًا.2- أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو.3- أنه يصد عن تعظيم الله- سبحانه وتعالى-، لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه، تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق.4- أن المغلو فيه إن كان موجودًا، فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحًا، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا إن كانت قدحًا.قوله: {في دينكم}، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل.والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلوًا في المخلوقين وغيرهم.وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟الجواب: نعم، يدخل الغلو في العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها، فإن النبي نهى عن ذلك، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلًا للوارد أو غير هذا، فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه.وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق نسرًا} [نوح: 23].قوله: (وفي الصحيح)، أي: في (صحيح البخاري)، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.قوله: {وقالوا}، أي: قال بعضهم لبعض.قوله: {لا تذرن}، أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون.قوله: {آلهتكم}، هل المراد: لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحدًا من إهانتها؟الجواب: المعنيان، أي: انتصروا لألهتكم، ولا تمكنوا أحدًا من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضًا، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق.قوله: {ولا سواعًا}، لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى: {ولا الضالين} [الفاتحة: 7]، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر، فهما دون مرتبة من سبقهما.قوله تعالى: {ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا}، هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها، لأن قوله: {آلهتكم} عام يشمل كل ما يعبدون، وكأنها كبار آلهتهم، فخصوها بالذكر.والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله، فهو حق، وإن كان غير الله، فهو باطل.قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح).قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم، عبدت).وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح)، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى: {قال نوح رب إنهم عصوني} [نوح: 21-23]، ظاهر الآية الكريمة: أن قوم نوح كانوا يعبدونها ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا وقالوا: {لا تذرن آلهتكم}، وهذا (أعني: القول بأنهم قبل نوح) قول محمد بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن.ويحتمل- وهو بعيد- أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس.فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالًا صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم.قوله: (أوحى الشيطان)، أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام.قوله: (أن انصبوا إلى مجالسهم)، الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره.قوله: (سموها بأسمائهم)، أي: ضعوا أنصابًا في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، لأجل إذا رأيتموهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لآدم: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120].وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء، فهذه عبادة قاصرة أو معدومة.قوله: (ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت من دون الله)، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، حتى إذا طال عليهم الآمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين، كما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} الآية [البقرة: 213].هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وهل تفسيره حجة؟الجواب: يرجع في التفسير أولًا إلى القرآن، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، مثل قوله تعالى: {وما أدراك ما هيه} تفسيرها: {نار حامية} [القارعة: 10، 11]، فإن لم نجد في القرآن، فإلى سنة الرسول، فإن لم نجد، فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك، لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم، حتى قال بعض العلماء: إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليسس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس، إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح، وقد عرفت القول الراجح.قوله: (الأمد)، الزمن.وهذا كتفسير ابن عباس، إلا أن ابن عباس يقول: (إنهم جعلوا الأنصاب في مجالسهم)، وهنا يقول: (عكفوا على قبورهم)، ولا يبعد أنهم فعلوا هذا وهذا، أو أنهم قبروا في مجالسهم، فتكون هي محل القبور.والشاهد قوله: (ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم)، فسبب العبادة إذًا الغلو في هؤلاء الصالحين حتى عبدوهم.وعن عمر، أن رسول الله قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله». أخرجاه.قوله: «لا تطروني»، الإطراء: المبالغة في المدح.وهذا النهي يحتمل أنه منصب على هذا التشبيه، وهو قوله: «كما أطرت النصارى ابن مريم»، حيث جعلوه إلهًا أو ابنًا لله، وبهذا يوحي قول البوصيري:أي: دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أو ثالث ثلاثة، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه.ويحتمل أن النهي عام، فيشمل ما يشابه غلو النصارى في عيسى بن مريم وما دونه، ويكون قوله: «كما أطرت» لمطلق التشبيه لا للتشبيه المطلق، لأن إطراء النصارى عيسى بن مريم سببه الغلو في هذا الرسول الكريم، حيث جعوله ابنًا لله وثالث ثلاثة، والدليل على أن المراد هذا قوله: «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».قوله: «إنما أنا عبد»، أي: ليس لي حق في الربوبية، ولا مما يختص به الله- عز وجل- أبدًا.قوله: «فقولوا عبد الله ورسوله»، هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول، فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله، قال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63]، وقال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} [الصافات: 171]، فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم عبادًا لله- عز وجل- أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته: أي: أنت إذا أردت أن تكلمني قل: يا عبد فلانة، لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل.فمحمد عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة: وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فهذا أفضل وصف اختاره النبي عليه الصلاة والسلام لنفسه.واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام، وهي:الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.الثاني: حق خاص للرسل، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.الثالث: حق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله}، فهذا حق مشترك، {وتعزروه وتوقروه} هذا خاص بالرسول، {وتسبحوه بكرة وأصيلًا} [الفتح: 9] هذا خاص بالله- سبحانه وتعالى-.والذين يغلون في الرسول يجعلون حق الله له، فيقولون: {وتسبحوه}، أي: الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله، ولا شك أنه شرك، لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان، فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله.ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام: «كما أطرت النصارى عيسى بن مريم»، لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو الواقع الآن، فيوجد عند قبره في المدينة من يسأله، فيقول: يا رسول الله! المدد، المدد، يا رسول الله! أغثنا، يا رسول الله! بلادنا يابسة، وهكذا، ورأيت بعيني رجلًا يدعو الله تحت ميزاب الكعبة موليًا ظهره البيت مستقبلًا المدينة، لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله.ويقول بعض المغالين: الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي فيها، فلا والله، ولا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة.فهو يريد أن يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة ولا يرضاها النبي لنا ولا لنفسه.وصحيح أن جسده أفضل، ولكن كونه يقول: إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة، لأن الرسول فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك.قوله: «إياكم»، للتحذير.وقال رسول الله قال: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».قوله: (والغلو)، معطوف على إياكم، وقد اضطرب فيه المعربون اضطرابًا كثيرًا، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفًا: أن (إيا) منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر، أي: أحذر نفسك أن تغرك، والغلو معطوف على إياك، أي: وأحذر الغلو.والغلو كما سبق: هو مجاوزة الحد مدحًا أو ذمًا، وقد يشمل ما هو أكثر من ذلك، أيضًا، فيقال: مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل، لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث روى ابن عباس، قال: قال رسول الله غداة العقبة وهو على ناقته: «القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين». هذا لفظ ابن ماجه.والغلو: فاعل أهلك.قوله: «من كان قبلكم»، مفعول مقدم.قوله: «فإنما»، أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.قوله: «أهلك»، يحتمل معنيين:الأول: أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعًا مباشرة من الغلو، لأن مجرد الغلو هلاك.الثاني: أنه هلاك الأجسام، وعليه يكون الغلو سببًا للهلاك، أي: إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله.وهل الحصر في قوله: «فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» حقيقي أو إضافي؟الجواب: إن قيل: إنه حقيقي، حصل إشكال، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»، فهنا حصران متقابلان، فإذا قلنا: إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة، صار بين الحديثين تناقض.وإن قيل: إن الحصر إضافي، أي: باعتبار عمل معين، فإنه لا يحصل تناقض بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر لئلا يكون في حديثه تناقض، وحينئذ يكون الحصر إضافيًّا، فيقال: أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف.وفي هذا الحديث يحذر الرسول أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة، فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:الوجه الأول: تحذيره، والتحذير نهي وزيادة.الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما أهلك من قبلنا، وما كان سببًا للهلاك كان محرمًا.* أقسام الناس في العبادة:والناس في العبادة طرفان ووسط، فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط.فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلًا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب، فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطًا بين هذا وهذا.والغلو له أقسام كثيرة، منها: الغلو في العقيدة، ومنها: الغلو في العبادة، ومنها: الغلو في المعاملة، ومنها: الغلو في العادات.والأمثلة عليها كما يلي: أما الغلو في العقيدة، فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعًا، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين:إما التمثيل، أو التعطيل.إما أنهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفى الله عن نفسه، أو عطلوه وقالوا: هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه، فنفوا ما أثبته الله لنفسه.لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك، فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه، فأخذوا بظواهر اللفظ، وقالوا: ليس لنا أن نزيد على ذلك، فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم وغيرهم في الدين، صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدًا، حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة.وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط.أما الغلو في العبادات، فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلال بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام، كغلو الخوارج والمعتزلة، حيث قالوا: إن من فعل كبيرة من الكبائر، فهو خارج عن الإسلام وحل دمه وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، وكذا المعتزلة، حيث قالوا: من فعل كبيرة، فهو بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر، فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة، فقالوا: إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئًا، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله لأنه لا يختلف الناس في الإيمان حتى إنهم ليقولون: إن إبليس مؤمن لأنه مقر، وإذا قيل: إن الله كفره، قالوا: إذن إقراره ليس بصادق، بل هو كاذب.وهؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولا شك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر.وأما الغلو في المعاملات، فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا: من اشتغل بالدنيا، فهو غير مريد للآخرة، وقالوا: لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك.وقابل هذا التشدد تساهل من قال: يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد، حتى الربا والغش وغير ذلك.فهؤلاء- والعياذ بالله- متطرفون بالتساهل، فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسًا أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف.والتوسط أن يقال: تحل المعاملات وفق ما جاست به النصوص، {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275]، فليس كل شيء حرامًا، فالنبي باع واشترى، والصحابة رضي الله عنهم يبيعون ويشترون، والنبي يقرهم.وأما الغلو في العادات، فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة، فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى، فهذا من الغلو المنهي عنه، فلو أن أحدًا تمسك بعادته في أمر حدث أحسن من عادته التي هو عليها نقول: هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة.وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادة التي قد تخل بالشرف أو الدين، فلا يتحول إلى العادة الجديدة.ولمسلم عن ابن مسعود، أن رسول الله قال: «هلك المتنطعون». قالها ثلاثًا.قوله: (المتنطعون)، المتنطع: هو المتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أو في الأفعال، فهو هالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة، فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به الكبر، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال.والتنطع بالأفعال كذلك أيضًا قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر، ولهذا قال: «هلك المتنطعون».والتنطع أيضًا في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها، فهو أيضًا من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألون عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصًا على العلم، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم.فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو، وأنه سبب للهلاك، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط، فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط.* فيه مسائل:الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.فيه مسائل:* الأولى: أن من فهم هذا الباب- أي: بما مر من تفسير الآية الكريمة: {وقال لا تذرن آلهتكم}- وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام.وهذا حق، فإن الإسلام المبني على التوحيد خالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم، فلا تجد بلدًا مسلمًا إلا وفيه غلو في قبور الصالحين، وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهمًا، مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأهل العراق يقولون: هو عندنا، وأهل الشام يقولون: عندنا، وأهل مصر يقولون: عندنا، وبعضهم يقول: هو في المغرب، فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطع أوصالًا، وهذا كله ليس بصحيح، فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين.وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله- سبحانه وتعالى- أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد ولله الحمد على التوحيد الخالص.الثانية: معرفة أو لشرك حدث في الأرض، كان بشبهة الصالحين. الثالثة: معرفة أو شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.* الثانية: معرفة أو لشرك حدث في الأرض، وجه ذلك: أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقوامًا صالحين، فحدث الغلو فيهم، ثم عبدوا من دون الله، ففيه الحذر من الغلو في الصالحين.* الثالثة: معرفة أو لشيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم، أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، وقوله: (مع معرفة أن الله أرسلهم)، قال الله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213]، أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم.* الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.قوله: (قبول البدع)، أي: أن النفوس تقبلها لا لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها، لأنها الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30]، فالفطر السليمة لا تقبل تشريعًا إلا ممن يملك ذلك.الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل: فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئًا أرادوا به خيرًا فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.* الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين:الأول: محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم.الثاني: أن أهل العلم والدين أرادوا بذلك خيرًا، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه: أن من أراد تقوىة دينه ببدعة، فإن ضررها أكثر من نفعها.مثال ذلك: أولئك الذين يغلون في الرسول ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيرًا، لكن أرادوا خيرًا بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها، لأنها تعطي الإنسان نشاطًا غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام.ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها، فلا تزيد الإنسان إلا ضلالًا، لأن النبي يقول: «كل بدعة ضلالة».فإن قيل: إن للاحتفال بمولده أصلًا من السنة، وهو أن النبي سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل على فيه»، وكان يصومه مع الخميس ويقول: «إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم».فالجواب على ذلك من وجوه:الأول: أن الصوم ليس احتفالًا بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد، فاحتفالهم على العكس من ذلك.فالمعنى: أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان، فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشيء، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم.الثاني: أنه على فرض أن يكون هذا أصلًا، فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد، لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعًا لبينه النبي، إما بقوله، أو فعله، أو إقراره.الثالث: أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك، فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر.الرابع: أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة، لأنه لم يكن معروفًا على عهد النبي وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.* مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال:فائدة: كل شيء يتخذ عيدًا يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعًا، فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئًا بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما، قال: «إن الله أبدلكما بخير منهما: عيد الأضحى وعيد الفطر»، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم.* السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده ينمي هذا الأمر الذي هو عليه.السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.* السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد، هذه العبارة تقيد من حيث كون آدميًّا بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس، فإن الله يقول: {قد أفلح من زكها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9-10].قوله: (جبلة) على وزن فعلة، وهو ما يجبل المرء عليه، أي: يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها.فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين، فقال تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} [الأحزاب: 72].أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقوىم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} [التين: 4-6]، فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدى، فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية، كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.وكذلك أهل العلم، كأبي الحسن الأشعري، كان معتزليًّا، ثم كلابيًّا، ثم سنيًّا، وابن القيم كان صوفيًّا، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية، فهداه الله على يده حتى كان ربانيًّا.الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.* الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا: إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئًا فشيئًا، حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».وقالوا أيضًا: (إن المعاصي بريد الكفر، وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية).والمعاصي كما أخبر النبي تتراكم على القلب، فتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب، صقل قلبه وبيض، وإلا، فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلمًا.وكذلك حذر من محقرات الذنوب، وضرب لها مثلًا بقوم نزلوا أرضًا، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا نارًا كبيرة، وهكذا المعاصي، فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيرًا الشهوة فهي أشد من الشبهة، لأن الشبهة أيسر زوالًا على من يسرها الله عليه، إذ إن مصدرها الجهل، وهو يزول بالتعلم.أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل، فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى، لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت البدع غالبها شبهة، ولكن كثيرًا منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهود من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الخلق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا: هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك، فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب، فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إمامًا، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إمامًا، فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله- سبحانه-، ثم عند خلقه.والخلاصة: أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم، إن المعاصي بريد الكفر، لأنه لا مانع من تعدد الأسباب.التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.* التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل، لأن الشيطان هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير، لأنه يعرف أن هذه البدعة تؤول إلى الشرك.وقوله: (ولو حسن قصد الفاعل)، أي: إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالمًا أنها بدعة ولو حسن قصده، لأنه أقدم على المعصية كم يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لو كان جاهلًا فإنه لا يأثم، لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)، فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرضي، لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا قال للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية: «لك الأجر مرتين»، لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع، لم يكن له أجر لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة، فقد قال النبي للذي لم يعد، «أصبت السنة».فإن قال: إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك.أجيب: بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول، لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم، ولأن هذا لم يكن عليه الرسول ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة، فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله، لأن عمله شر حابط كما قال النبي: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد».وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها، نقول: ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به، فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم.ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغير من لا يعرفون عن الإسلام شيئًا، فلو ماتوا لا نقول: إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة، فأمرهم إلى الله.العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.* العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه، هذا ما حذر منه النبي، لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]، وقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [الفرقان: 67]، وقد سبق بيان ذلك.* الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة: هي أنها توصل إلى عبادتهم.ومثل ذلك: ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره، فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد تؤدي بصاحبها إلى عبادة هذا القبر.الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. الرابعة عشرة: وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.* الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل: هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك.* الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، أي: قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله، فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة، فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدبرت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية.* الرابعة عشرة- وهي أعجب العجب-: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث.قوله: (وأعجب)، أي: أكثر عجبًا وأشد، والعجب نوعان:الأول: بمعنى الاستحسان، وهو ما إذا تعلق بمحمود، كقول عائشة في الحديث: «كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله».الثاني: بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} [الرعد: 5].وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار.وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السيء حسنًا، قال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [فاطر: 8]، وقال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا} [الكهف: 103-104].قوله: (واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال)، أي: من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله، فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه ثم بدا لي ما لعله المارد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو، فلا نهي فيه، والله أعلم.الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم»، فصلوات الله وسلامه عليه، بلغ البلاغ المبين.* الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، أي: ما أرادوا إلا الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك.* السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك، أي: أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة، وهذا ظن فاسد كما سبق.* السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: «لا تطروني...» الحديث، معنى الإطراء: الغلو في المدح، والمبالغة فيه.وهذا الذي نهى عنه وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد، حتى جعلوا النبي المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول النصارى: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة.ومعنى: (بلغ)، أي: أوصل وبين.الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.* الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله: «هلك المتنطعون»، فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع.* التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، أي: لم تعبد هذه التماثيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل، ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوه أمر ضروري للأمة، لأنه إذا فقد العلم، حل الجهل محله، وإذا حل الجهل، فلا تسأل عن حال الناس، فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه.* العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء، لم يبق إلى جهال الخلق يفتون بغير علم.ومن أسباب فقده أيضًا: الغفلة والإغراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به.ثم إن العلم قد يكون موجودًا وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرؤون العلم ولا يعملون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به، فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في جوده ضررًا على الأمة، لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتًا غير عامل بما علم، ظنوا أن ما عليه الناس حق.فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل، فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه.* الخلاصة للباب:بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر، وليس هو السبب الوحيد للكفر.وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة، فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم، فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه، فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل.س1: ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد؟الجواب: الغلو مجاوزة الحد.والتنطع معناه: التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو.أما الاجتهاد، فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة، فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلًا أراد أن يقوم ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها، فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك، فإن هذا من الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا الخلاف هدي النبي.س2: ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة؟الجواب: هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل، فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع.وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن.والصحيح أيضًا أنها ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت.
|